الحمدُ للهِ ، وسلامٌ على عبادِهِ الذين ٱصْطَفَى ، أَمَّا بَعْدُ:
فكنتُ قد بدأتُ بتحقيق كتاب (التمهيد في علم التجويد) لابن الجزري في سنة 1983م ، ونُشِرَ في مؤسسة الرسالة ببيروت سنة 1986م، وصَدَرَ في طبعات متتالية من غير أنْ تُتَاحَ لي فرصةُ مراجعته ، وقد طُبِعَ كثير من المصادر التي ٱعْتَمَدَ عليها ابن الجزري في تأليف الكتاب ، وكان مخطوطاً وقت ٱشتغالي بتحقيقه، وحَصَلْتُ على مخطوطات جديدة للكتاب ، وكنتُ أجد في الطبعة الأولى ما يحتاج إلى مراجعةٍ وتصحيحٍ ، ومِن ثَمَّ عَزَمْتُ على إعادة تحقيقه ، ومراجعةِ الدراسة التي كتبتها بين يدي التحقيق ، وقد أنجزتُ ذلك والحمد لله ، وهو في طريقه للصدور في طبعة جديدة في مؤسسة الرسالة (ناشرون) ، إن شاء الله.
ووجدتُ في أثناء مراجعتي للكتاب عدداً من المسائل التي أَحْبَبْتُ أَنْ أَنْقُلَ بعضها للمهتمين بالتحقيق ، وبعلم التجويد ، رغبةً في تعميم الفائدة ، وإثراءً لتقاليد التحقيق العلمي التي تعارف عليها المشتغلون في خدمة تراثنا العلمي.
(1)
الانجذابُ نَحْوَ المشهورِ المُصَحَّفِ
لعل من أكثر ما يعاني منه المحققون لكتب التراث العلمي العربي هو آفة التصحيف والتحريف ، بسبب إهمال إعجام الحروف في المخطوطات أحياناً ، أو بسبب أخطاء النساخ ، أو بسبب رداءة الخط ، ومن الأمور التي تحول دون ٱكتشاف ما حَصَلَ من تصحيف أو تحريف في ألفاظ النصوص هو الانجذاب نحو المشهور ، وإن كان مُصَحَّفاً ، من غير تحقيق أو تدقيق ، وسوف أورد مثالين وقفتُ عليهما في أثناء عملي في مراجعة تحقيق كتاب (التمهيد).
المثال الأول : الكَرْخِيُّ أو الكَرُوخِيُّ
وَرَدَ لقبُ (الكَرْخِيُّ) في كتاب التمهيد في موضعين ، ووجدتُ النسخ الخطية للكتاب قد ٱختلفت في الموضع الأول ، وهو وَصْفٌ لعبد الملك بن أبي القاسم ، أحد رواة سنن الترمذي، ففي أكثرها (الكَرْخِيُّ) ، وفي بعضها (الكَرُوخِي) ، وٱتفقت في الموضع الثاني ، وهو وَصْفٌ لإبراهيم بن محمد الكَرْخِيِّ ، أحد رواة سنن أبي داود، وانجذب ناشرو الكتاب وبعض محققيه إلى إثبات (الكَرْخِي) في الموضع الأول ، لأنه هو المشهور ، وتبين لي بعد البحث في ترجمة عبد الملك بن أبي القاسم أن الصواب في لقبه ونسبته هو (الكَرُوخِيٌّ) نسبة إلى (كَرُوخ) ، بلدة بنواحي هراة ، كما ورد في معجم البلدان ، وكتاب الأنساب، وكان عبد الملك ممن ينتسب إليها، أما الكَرْخِيُّ فهو نسبة إلى محلة الكَرْخِ ببغداد.
ومن ثم ينبغي للمحقق أنْ يَتَنَبَّهَ إلى مثل ذلك ، وأَلَّا يسارع إلى إثبات المشهور لشهرته فقط ، وإنما عليه أن يرجع إلى المراجع المختصة ، فَرُبَّ مشهورٍ مُصَحَّفٍ ، والصواب في غيره.
المثال الثاني : أنطاكية وأنطالية
كان ابن الجزري رَحِمَهُ الله قد تَوَلَّى في بلاد الشام متابعة المستأجرات الخاصة بالأمير قلوبك أستادار أيتمش ، أتابك السلطان برقوق، (والأستادار هو الذي يشرف على تدبير بيوت السلطان، والأتابك هو أمير العسكر)، فَزَعَمَ قلوبك أنه تأخر عنده مال كبير ، فتحاكم معه عند السلطان ، فَرَسَمَ عليه ، وخشي ابن الجزري مغبة ذلك ، فهرب من القاهرة إلى الإسكندرية ، ثم إلى بلاد الروم
[1]، خشية أن يتعرض للحبس أو القتل ، بالإضافة إلى مصادرة الأموال.
ووصف ابن الجزري رحلته تلك في كتابه (جامع أسانيد ابن الجزري) ، فقال: "حتى قَدَّرَ الله تعالى ما قَدَّرَ من توجهي إلى بلاد الروم ، فراراً مما كنت أتوقعه من الفتن ، ومن غير ذلك ، فخرجت من الديار المصرية في يوم السبت غرة جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين وسبع مئة ، وتوجهت إلى ثغر الإسكندرية المحروس ، فأقمتُ بها أياماً حتى تيسر الركوب في البحر ، فركبته في أول رجب من السنة المذكورة ، وسلم الله تعالى فَخَرَجْتُ منه في الخامس من الشهر المذكور بثغر
أنطاكية المحروس"
[2].
وكنت أبحث عن تاريخ ابن الجزري أو مختصر تاريخ الإسلام للذهبي ، ونظرت في مخطوطته التي تحتفظ بها مكتبة المدينة المنورة ، ووجدت في خاتمة النسخة أنَّ ابن الجزري فرغ منها في رجب سنة ثمان وتسعين وسبع مئة بمدينة
أنطالية ، وكذلك أَثْبَتَهَا محقق الكتاب (ص 452)، وهذه صورة خاتمة المخطوط :
واستوقفني اختلاف اسم المدينة التي نزلها ابن الجزري بعد رحلته البحرية من الإسكندرية ، هل هي أنطاكية ، أو أنطالية ، وتقارب الاسمين يحمل على الاعتقاد بحصول تحريف في أحدهما ، ولا يخفى على القارئ أن أنطاكية أشهر في كتب التاريخ من أنطالية ، فَسَوَّغَ ذلك عند بعض المحققين والباحثين إثباتها ، لكن البحث يكشف أن الراجح هو أن تكون تلك المدينة أنطالية، ومن الأدلة على ذلك:
1-الموقع الجغرافي لكلا المدينتين ، فأنطالية تقع على ساحل البحر جنوب بلاد الروم ، وهل تقابل الإسكندرية ، بينما تقع أنطاكية في البر في شمال غرب بلاد الشام ، وهذه صورة الخارطة التي تبين موقع المدينتين:
2- كانت أنطاكية تخضع لسلطان الدولة المملوكية ، التي فر ابن الجزري خشية من سطوة أمرائها عليه ، وكانت أنطالية تخضع لسلطان بلاد الروم ، التي وجد فيها ابن الجزري الأمان. يدل على ذلك صورة الخارطة التي توضح امتداد حكم الدولتين في تلك الحقبة، في أطلس تاريخ الإسلام للدكتور حسين مؤنس (ص 305).
3. ذَكَرَ ابن حجر العسقلاني في كتاب إنباء الغمر أن البلدة التي التجأ إليها ابن الجزري هي أنطالية ، وليست أنطاكية ، حيث قال (1/525) : "وكان ابن الجزري يتحدث في تعلقات الأمير قطلوبك الذي كان في خدمة الأمير الكبير أيتمش، ثم وَلِيَ بعد ذلك الأستادارية، فحاسب ابن الجزري فادَّعَى أنه يستحق عليه شيئاً كثيراً فخشي منه، ففر فركب البحر إلى الإسكندرية، ثم إلى انطالية، ثم إلى برصا". وقد تحرفت في المكتبة الشاملة إلى (أنطاكية)، بتأثير الانجذاب إلى المشهور، وإن كان مُصَحَّفاً ، ورجعت إلى النسخة الورقية من كتاب إنباء الغمر ، فوجدتها (أنطالية).
وبناء على ذلك يترجح أن تكون (أنطالية) هي البلدة التي نزلها ابن الجزري بعد خروجه من الإسكندرية ، وليست (أنطاكية)
[3].
والشَّيْءُ بالشَّيْءِ يُذْكَرُ ، فقد ورد اسم : (أحمد بن ثابت) في كتاب التحديد للداني ، وأَثْبَتُّهُ في الطبعة الأولى للكتاب ، بهذه الصورة ، فلم يقم عندي أي شك في صحة هذا الاسم ، لإجماع مخطوطات الكتاب عليه ، وشيوع اسم ثابت في كتب التراث ، وحين راجعت تحقيقي للكتاب ، وبحثتُ عن ترجمة لأحمد بن ثابت تعذر علي ذلك ، وبعد البحث في سلسلة الإسناد التي ورد فيها هذا الاسم ، تبين أنه (أحمد بن نابت) ، وهو أحمد بن نابت بن أحمد ، أبو عمر التغلبي القرطبي ، كان شيخاً صالحاً ثقة في ما رَوَى ، توفي سنة 360هـ، وترجم له ابن الفرضي في تاريخ علماء الأندلس (1/58) ، والذهبي في تاريخ الإسلام (8/141).
والخلاصة : أن ظاهرة الانجذاب إلى المشهور ، وإن كان مُصَحَّفاً ، توقع في الأخطاء التي يلزم المحققين الحرصُ على الابتعاد عنها ، وبخاصة في ضبط الأعلام ، وذلك بالرجوع إلى كتب التراجم ، وكتب التعريف بأسماء البلدان.
والله تعالى أَعْلَمُ ، وهو ولي التوفيق.
5/حزيران/2021م
أربيل
[1] ينظر : ابن حجر : إنباء الغمر 1/510.
[2] جامع أسانيد ابن الجزري ص 51 (تحقيق د. حازم) ، وص 117-118 (تحقيق د. أحمد الرويثي). واتفاق الطبعتين على (أنطاكية) يدل على أنها كذلك في المخطوط.
[3] جاءت في كتاب السلوك إلى معرفة دول الملوك للمقريزي (5/396) : أنطاكية ، بدلاً من أنطالية ، وهو تصحيف في ما يترجح عندي ، وحاول الباحث الدكتور مصطفى آتلّا أَقْدَمِير في بحثه : مدرسة الإقراء في تركيا (ص 267)، التوفيق بين روايات كتب التاريخ بالقول : إن ابن الجزري وصل أولاً إلى أنطاكيا ، ثم اتجه إلى بورصة ماراً بمدينة أنطاليا، لكن معالم الجغرافيا وشواهد التاريخ لا تساعد على مثل هذا التصور، والله أعلم.